00:00في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني
00:06اعلم أن صناعة الكلام نظما ونثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني
00:12وإنما المعاني تبع لها وهي أصل
00:15فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب
00:23ليكثر استعماله وجريه على لسانه
00:29حتى تستقر له الملكة في لسان مضر ويتخلص من العجمة التي ربي عليها في جيله ويفرض نفسه مثل وليد ينشأ في جيل العرب ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم
00:52وذلك أن قدمنا أن لللسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل
01:04والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ وأما المعاني فهي في الضمائر وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد وفي طلوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى فلا تحتاج إلى صناعة
01:20وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج لصناعة كما قلناه وهو بمثابة القوالب للمعاني
01:29فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخذف والماء واحد في نفسه
01:41وتختلف الجودة في الأواني المملوئة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء
01:48كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد والمعاني واحدة في نفسها
02:01وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقاصده ولم يحسم بمثابة المقعد الذي يروم النهوض ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه
02:17والله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون
02:21في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ
02:27قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته
02:38تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ فمن كان محفوظه شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضى
02:51أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابع
02:59تكون ملكته أجود وأعلى مقاما
03:03يظهر ذلك للبصير الناقض صاحب الذوق وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع
03:10تكون جودة الاستعمال من بعده ثم إجادة الملكة من بعدهما
03:16فبارتقاء المحفوظ في طبقتهم من الكلام
03:19تلتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها
03:24وتنمو قوى الملكة بتغتيتها
03:27وذلك أن النفس وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع
03:32فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات
03:36واختلافهما إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان
03:43التي تكيفها من خارج
03:45فبهذه يتم وجودها
03:48وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها
03:52والملكات التي تحصل لها
03:56إنما تحصل على التدريج كما قدمنا
04:01فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر
04:05وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل
04:08والعلمية بمخالطة العلم والإدراكات والأبحاث والأنظار
04:13والفقهية بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها
04:18وتخريج الفروع على الأصول
04:20وللنفس في كل واحد منها لون تتكيف به
04:24وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو راداء
04:29تكون تلك الملكة في نفسها
04:32فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها
04:35إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام
04:39ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة
04:47وما ذلك إلا لما يسبق إلى محفوظهم ويمتلع به من القوانين العلمية
04:54والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة
04:58لأن العبارات عن القوانين والعلوم لا حظ لها في البلاغة
05:03فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس
05:09جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور
05:11وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم
05:15وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحات والمتكلمين والنظار وغيرهم
05:20ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب
05:25وأما الكتاب والشعراء فليسوا كذلك لتحريهم في محفوظهم
05:33ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل
05:38وانتقائهم له الجيد من الكلام
05:43ذكرت يوما صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب
05:49وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر
05:53وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة
05:57فقلت له أجد استصعابا علي في نظم الشعر
06:02متى رمته مع بصري به وحفظي لجيد الكلام من القرآن والحديث
06:08وفنون من كلام العرب
06:10وإن كان محفوظي قليلا وإنما أتت
06:14والله أعلم من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية
06:21فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات
Be the first to comment