- 4 months ago
علم الاجتماع
Category
📚
LearningTranscript
00:00في أنه لا تتفق الإجازة في فني المنظوم والمنثور معا إلا للأقل
00:07والسبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان
00:12فإذا تسبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة
00:18لأن تمام الملكات وحصولها لطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل وأيسر
00:25وإذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المدة القابلة وعائقة عن سرعة القبول
00:34فوقعت المنافات وتعذر التمام في الملكة
00:39وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق
00:44وقد برهن عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان
00:49فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان وهي بمنزلة الصناعة
00:56وانظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا
01:03فالعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة العربي
01:10ولا يزال قاصرا فيه ولو تعلمه وعلمه
01:14وكذا البربري والرومي الإفرانجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي
01:22وما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم ملكة اللسان الآخر
01:29وحتى أن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي جاء مقصرا في معارفه عن الغاية والتحصيل
01:40وما أتي إلا من قبل اللسان وقد تقدم لك ذلك من قبل
01:47فالألسن واللغات شبيهة بالصنائع وقد تقدم لك أن الصنائع وملكاتها لا تزدحم
01:55وأن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد أخرى أو يستولي فيها على الغاية
02:03والله خلقكم وما تعملون
02:06في صناعة الشعر ووجه تعلمه هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى بالشعر عندهم
02:14ويوجد في سائر اللغات إلا أن الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب
02:22فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم
02:28وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه
02:32وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنح
02:37إذ هو كلام مفصل قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة
02:44وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتا
02:50ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رويا وقاطية
02:56ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة
03:03وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عن ما قبله وما بعده
03:13وإذا أفرد كان تاما في بابه في مدح أو تشبيب أو رثاء
03:19فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك في البيت ما يستقل في إفادته
03:25ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك
03:30ويراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه
03:42وهي أوزان مخصوصة تسميها أهل تلك الصناعة البحور
03:48وقد حصروها في خمسة عشر بحر بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظمة
04:00واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب
04:05ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم
04:09وشاهد صوابهم وخطائهم
04:12وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم
04:16وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلها
04:23والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم
04:30حتى يحصل شبههم في تلك الملكة
04:36والشعر من بين فنون الكلام الصعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته
04:42بصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده
04:48ويصلح أن ينفرد دون ما سواه
04:51فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة
04:56حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحة من شعر العرب
05:05ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض
05:11بحسب اختلاف الفنون التي في القصيدة
05:14ولصعوبة منحاه وغرابة فنه كان محكا للقرائح في استجادة أساليبه
05:23وشخذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه
05:26ولا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق
05:31بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها واستعمالها
05:39ولنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يردون بها في إطلاقهم
05:47فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب
05:53أو القالب الذي يفرغ فيه
05:56حيث يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار طبقها على تركيب خاص
06:04وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويسيرها في الخيال كالقالب أو المنوال
06:13ثم ينتق التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصها رصة
06:21كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال
06:26حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام
06:33ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه
06:38فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة
06:45فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله
06:50يا دار من يتب العلياء فالسندي
06:59ويكون باستدعاء الصحب للوقوف وسؤال كقوله
07:05قيف نسأل الدار التي خف أهلها
07:11أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله
07:16قيف نبكي من ذكرى حبيب ومنزله
07:21أو بالاستفهام عن الجواب لمخطب غير معين كقوله
07:27ألم تسأل فتخبرك الرسوم
07:33ومثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيةها كقوله
07:39ومؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج
07:44والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب
07:47الذي يبنى فيه أو المنوال الذي ينسج عليه
07:52فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسدا
07:57وهي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب
08:03لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فتستفيد بها العمل على مثالها
08:10والاحتذاء بها في كل تركيب من شعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق
08:17وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لا يفيد تعليمه بوجه
08:24وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه العلمية استعملوه
08:30وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم
08:35تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية
08:39فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو بهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب
08:46كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس
08:52ولهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الدهن إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم
09:00وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور
09:05فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاءوا به مفصلا في النوعين
09:11ففي الشعر بالقطع الموزونة والقواف المقيدة واستقلال الكلام في كل قطعة وفي المنثور
09:18يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالبا
09:22وقد يقيدونه بالأسجاع وقد يرسلونه وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب
09:30والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه
09:37ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية
09:44قالب كلي مطلق يحظو حذوه في التأليف كما يحظو البناء على القالب والنساج على المنوال
09:54فلهذا كان فن تأليف الكلام منفردا عن نظر نحوي والبياني والعروضي
10:01نعم إن مراعاة قواني هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها
10:07فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب
10:16ولا يفيده إلا حفظ كلام العربي نظما ونثرا
10:23وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حدا أو رسما لشعر تفهم حقيقته على صعوبة هذا الغرض
10:32فإن لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأينا
10:37فنقول الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف
10:42المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده
10:51الجاري على أساليب العرب المخصوصة به
10:56حيث أن الجاري على الأساليب المخصوصة به
11:01فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة
11:06فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم
11:11لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور
11:18وكذا أساليب المنثور لا تكون للشعر
11:22فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا
11:27وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن تلقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية
11:33يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجرياه على أساليب العرب من الأمم
11:44عند من يرى أن الشعر يوجد للعرب وغيرهم
11:48ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك
11:52ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة
11:56واعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطا أولها
12:02الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها
12:09ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب
12:14وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين
12:21مثل ابن أبي ربيع وكثير وذير رمة
12:28وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري والرضى وأبي فراس
12:36ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر الرديء
12:41ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ
12:49فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر وإنما هو نظم ساقط
12:55وجتناب الشعر أولى ممن لم يكن له محفوظ
13:00ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم
13:06وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ
13:10وربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ
13:15لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة
13:19إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها
13:26فإذا نسيها وقد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها
13:31كأنه منوال يأخذ النسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة
13:37ثم لابد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار
13:43وكذل مسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور
13:50ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط
13:56فذلك أجمع له وأنشط للقريحة
14:01أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه
14:05قالوا وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة
14:12ونشاط الفكر
14:13وفي هؤلاء الجمام وربما قالوا
14:17إن من بواعثه العشق والانتشاء
14:21ذكر بن رشيق في كتاب العمدة
14:24وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها
14:28ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله
14:33قالوا فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر
14:39ولا يكره نفسه عليه
14:41وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه
14:45ويبني الكلام عليها إلى آخره
14:48لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها
14:53فربما تجيء نافرة قلقة
14:56وإذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الذي عنده
15:00فليتركه إلى موضعه الأليق به
15:02فإن كل بيت مستقل بنفسه
15:05ولم تبقى إلا المناسبة
15:08فليتخير فيها كما يشاء
15:10وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد
15:15ولا يضم به على التركب إذا لم يبلغ الإجادة
15:20فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره واختراع قريحته
15:26ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب
15:31والخالص من الضرورات اللسانية
15:33فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة
15:38وقد حضر أئمة اللسان عن المولد وارتكاب الضرورة
15:42إذ هو في ساعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة
15:47ويجتنب أيضا المعقدة من التراكيب جهده
15:52وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم
15:58وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم
16:04وإنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى
16:10فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوى واستعمل الذهن بالغوص عليها
16:16فمنع الذوق عن استفاء مدركه من البلاغة
16:21ولا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن
16:26وليجتنب الشعر أيضا الحوشية من الألفاظ والمقعر
16:32وكذلك السوقية المبتذلة بالتداول بالاستعمال
16:37فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة أيضا فيصير مبتذلا
16:43ويقرب من عدم الإفادة كقولهم النار حارة والسماء فوقنا
16:50وبمنقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان
16:57ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب
17:03ولا يحذق فيه إلا الفحول وفي القليل على العسر
17:08لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك
17:13وإذا تعذر شعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوضه
17:19فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف بالترك والإهمال
Be the first to comment