00:30والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف
00:37فلما فشل إقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة
00:48والأظهر إن الإسم تم بالاشتقاق من الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف
01:01فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمواجد مدركة لهم
01:11وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك
01:18وإدراكه نوعان إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم
01:24وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض والبسط والرضى والغضب والصبر والشكر
01:31وأمثال ذلك فالمعنى العاقل والمتصرف في البدن ينشأ من إدراكات وإرادات وأحوال
01:40وهي التي يميز بها الإنسان كما قلناه وبعضها ينشأ من بعض
01:46كما ينشأ العلم من الادلة والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به
01:52وأصل العبادات كلها الطاعة والإخلاص ويتقدمها الإيمان ويصاحبها
01:59وتنشأ عنها الأحوال والصفات نتائج وثمرات
02:05ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان
02:11وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل فيعلم أنه إنما أوتي من قبل التقصير في الذي قبله
02:20وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية
02:24وغاية أهل العبادات إذا لم ينتبهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات
02:30مخلصة من نظر الفقه في الجزاء والامتثال
02:34وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد
02:38ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أولا
02:43فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات
02:55وصار علم شريعة على صنفين
02:58صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتية
03:01وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات
03:06وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة
03:10ومحاسبة النفس عليها
03:12والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها
03:17وكيفية الترقي فيها من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك
03:23علم تعبير الرؤية
03:25هذا العلم من العلوم الشرعية وهو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع
03:32وكتب الناس فيها
03:33وأما الرؤية والتعبير لها
03:39فقد كان موجودا في السلف كما هو في الخلف
03:42وربما كان في الملوك والأمم من قبل
03:46إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام
03:51وإلا فالرؤية موجودة في صنف البشر على الإطلاق
03:55ولا بد من تعبيرها
03:57فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه
04:01يعبر الرؤية كما وقع في القرآن
04:04وكذلك ثبت في الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم
04:08وعن أبي بكر رضي الله عنه والرؤية
04:11مدرك في مدارك الغيب
04:14وقال صلى الله عليه وسلم
04:16الرؤية الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة
04:20وقال لم يبق من المبشرات إلا الرؤية الصالحة
04:25يراها الرجل الصالح أو ترى له
04:28وأول ما بدئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤية
04:33فكان لا يرى رؤية إلا جاءت مثل فلق الصبح
04:37وأما السبب في كون الرؤية مدركا للغيب
04:41فهو أن الروح القلبية وهو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي
04:48ينتشر في الشريانات ومع الدم في سائر البدن
04:54وبه تكمل أفعال القوى الحيوانية وإحساسها
05:01فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس
05:06وتصريف القوى الظاهرة وغشى سطح البدن ما يغشاه من برد الليل
05:12انخنس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي
05:16فيستجم بذلك لمعاودة فعله
05:20فتعطلت الحواس الظاهرة كلها
05:23وذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب
05:27ثم إن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان
05:32والروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته
05:37إذ حقيقته وذاته عين الإدراك
05:41وإنما يمنع من تعقله للمدارك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسه
05:49فلو قد خل من هذا الحجاب وتجرد عنه لرجع إلى حقيقته
05:55وهو عين الإدراك فيعقل كل مدرك
05:59فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله فلابد له من إدراك لمحة من عالمه
06:07بقدر ما تجرد له
06:09وهو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها
06:14وهي الشاغل الأعظم
06:16فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة من عالمه
06:20وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع إلى بدنه
06:25إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية
06:32والمدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية والمتصرف منها هو الخيال
06:39فإنه ينتزع من الصور المحسوسة صورا خيالية
06:43ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها
06:48عند النظر والاستدلال
06:51وكذلك تجرد النفس منها صورا أخرى نفسانية عقلية
06:59فيترق التجريد من المحسوس إلى المعقول
07:04والخيال واسطة بينهما
07:06ولذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال
07:11فيصوره بالصورة المناسبة له
07:14ويدفعه إلى الحس المشترك
07:18فيراه النائم كأنه محسوس
07:21فينتزع المدرك من الروح العقلي إلى الحسي والخيال أيضا واسطة
07:28هذه حقيقة الرؤية
07:30ومن هذا التقرير يظهر لك الفرق
07:33بين الرؤية الصالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة
07:37فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم
07:41لكن إن كانت تلك الصور متنزلة من الروح العقلي المدرك
07:46فهو رؤية وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أو دعها إياه منذ اليقظة
07:54فهي أضغاث أحلام
07:56وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركه وألقاه إلى الخيال فصوره
08:03فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء
08:08كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر
08:14أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية
08:18فإذا استيقظ وهو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر أو الحية
08:23فبنظرة معبرة بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة وأن المدرك وراءها
08:31وهو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك فيقول مثلا
08:36هو السلطان لأن البحر خلق عظيم يناسب أن يشبه به السلطان
08:41وكذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم الضرارها
08:46وكذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية
08:50وأمثال ذلك ومن المرئي ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها
08:57أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه
09:00ولهذا وقع في الصحيح الرؤيات ثلاث
09:05رؤية من الله ورؤية من الملك ورؤية من الشيطان
09:10فالرؤية التي من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل
09:16والتي من الملك هي الرؤية الصادقة تفتقر إلى التعبير
09:20والرؤية التي من الشيطان هي الأضغاث
09:24ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه وتأويله كما يقولون البحر يدل على السلطان وفي موضع آخر يقولون البحر يدل على الغيظ
09:41وفي موضع آخر يقولون البحر يدل على الهم والأمر الفادح ومثل ما يقولون الحياة تدل على العدو وفي موضع آخر يقولون هي كاتم سر وفي موضع آخر يقولون تدل على الحياة
10:00وأمثال ذلك فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية ويعبر في كل موضع بما تضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين
10:12ما هي أليق بالرؤية وتلك القرائن منها في اليقظة ومنها في النوم ومنها ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصية التي خلقت فيه
10:23وكل ميسر لما خلق له ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السلف وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء
10:34وكتب عنه في ذلك القوانين وتناقلها الناس وهو علم مضيء بنور النبوة للمناسبة بينهما كما وقع في الصحيح والله علام الغيوب