رجال في الذاكرة نبضة الإمام محمد الغزالي رحمه الله

  • il y a 12 ans
وماذا بقى من الراحل العظيم؟
لقد رحل الشيخ فجأة بدون وداع، وجاءت كرامة الرحيل - زمانًا ومكانًا - كفاء لكرامة الراحل، فمات في مناسبة لإكرام العلم والعلماء، وهذا هو عنصر الزمن الكريم. ومات في أرض مباركة طيبة، ودفن بالبقيع، وهذا هو عنصر المكان المبارك العظيم. ثم كانت كرامة الكرامات - بعد وفاته - متمثلة في فوزه بالإجماع الوجداني الشامل حزنًا هز القلوب، وشعورًا بجلال الخطب، وفداحة الفراق.
واستغرق هذا الشعور الإجماعي مشارق الأرض ومغاربها، ليضم الملوك والأمراء، والعلماء والفقهاء، والصغار والكبار، والرجال والنساء، وكل سويٍّ من عباد الله، وعزيز على النفس أن ترى - في عصرنا.. عصر الغربة والكروب - ساحات العلم والفقه والفكر، وقد خلت من محمد الغزالي، وكأنه المقصود بقول أبى تمام:
عادت وفودُ الناس من قبرهِ
فارغة الأيدى وملأى القلوب
قد راعها ما رُزئتْ، إنما
يُعرف فقدْ الشمسِ عند المغيب
وبعدها يدور السؤال التقليدى: ماذا بقي من محمد الغزالي؟
وإنا لنجيب - بصدق وإيمان ويقين -: بقي منه الفكر الحر المستنير الذي يستقي حقائق الحياة والحق من كتاب الله وسنة رسوله، متقدمًا في الدرب لا تأخذه في الله لومة لائم.
بقي منه المرونة والسماحة، وسعة الأفق، ومنطق التسهيل والتيسير والتحبيب، بعيدًا عن التعصب الأعمى، والتشنج المسعور، وبعيدًا عن الغلو والإفراط، والتهاون والتفريط.
بقي منه مائدة طيبة من عشرات كتب في الفقه والسنة، والسيرة والسياسة، والنظم والسياسة الشرعية، وآداب النفس والمجتمع، والذود عن الإسلام في مواجهة الإلحاد، والصهيونية والصليبية والإباحية، وهي مائدة لا تنفد ولا تبور.
وكل أولئك يمثل حيثية الخلود الذي لا يعرف الموت، والتجدد الذي لا يعرف البلى، والتفوق الذي لا يعرف النقص والذبول.
سلام على محمد الغزالي، وألحقه الله بمعية النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.
الشاعرية والشاعر
وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان طالبًا في السنة الرابعة من المعهد الدينى الثانوي صدر لمحمد الغزالي ديوان شعر باسم «الحياة الأولى»، وفى طبعته الأخيرة, قرأنا لأستاذنا الكبير الدكتور مصطفى الشكعة تقديمًا، بل دراسة ضافية للديوان وشعر الفقهاء: مناحيه وموضوعاته وتطوره، وهي دراسة من ثمانين صفحة، أي بعدد صفحات الديوان نفسه.
و«الحياة الأولى» عنوان كالمنشور الزجاجى الذى يعطى ألوان الطيف السبعة، مع أن مصدرها شعاع واحد.
وكذلك هذا العنوان قد يبادر ابتداء فيعطينا دلالة دينية تعني (الحياة الدنيوية)، استلهامًا لقوله تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى}(الضحى: 4)، وقد يعطي دلالة زمانية.. تعني أنه «شعر الحياة الأولى»، أى الشبيبة الباكرة.
وقد يكون المقصود «الأولوية» بمفهومها القيمي، لا «الأوَّلية»، بمفهومها الزمني، كأن الديوان يرسم الحياة الأوْلى - بفتح الهمزة وتسكين الواو - أي الحياة «الأجدر» بأن تعاش دينًا وخلقًا وسلوكًا.. فهي صاحبة المرتبة الأولى - بضم الهمزة - متقدمة على كل المراحل.

ويقول الدكتور الشكعة: «.. هكذا طمأن الشيخ قارئ شعره من مجرد أن تقع عيناه على عنوان أولى قصائده أنها سيرة ذاتية رفيعة المحتوى، بل هي منهج لسيرة ذاتية سوف يقوم الشيخ الشاب على التزامه في مسار نقى، ومضمار نظيف، سعيًا إلى مستقبل مجيد، ومكانة رفيعة، كل ذلك القول الرصين أطلقه الشاعر، وهو ابن ثمانية عشر ربيعًا»

Recommandée